الحوكمة في العالم الرقميّ والعالم العربيّ
تزداد أهمّيّة التكنولوجيا والابتكارات الرقميّة في الإدارة العامّة في جميع أنحاء العالم. وتُعدّ اليوم من أساسيّات الحوكمة الرشيدة، إذ أنّها تعزّز تجربة تقديم الخدمات إلى المواطنين، وتضمن أداء المؤسّسات الرائد. وقد طوّرت الدول طريقة تفاعلها منذ عقود، إذ أصبح العالم الرقميّ ضرورة أساسيّة لتعزيز مستويات الشفافيّة، وإشراك المواطنين بوجهٍ فاعل في إدارة بلدهم. لذلك، قابلت البيان البروفيسور ندى الملّاح البستانيّ لتحدّثنا عن أهمّيّة الرقمنة في الإدارات العامّة، والإمكانات التي تحملها في مساعدة البلدان العربيّة على تحقيق أهدافها في النموّ.
- بدايةً، كيف دخلت الرقمنة عالم الإدارة العامّة؟
- في منتصف القرن الماضي، برزت لدى الدول والحكومات رغبة في تحدّي البيروقراطيّة التقليديّة كي تتعافى من آثار الحرب العالميّة الثانية التي خرجت منهكة منها. ووضعت نُصب أعينها مبادئ الإدارة العامّة الجديدة، كي تحقّق هذا التحوّل عن طريق دمج الاستراتيجيّات الموجَّهة نحو السوق، ودمج ممارسات القطاع الخاصّ في القطاع العامّ. وقد أبصر هذا التوجّه النور في بريطانيا، فبدأت الحكومة آنذاك سلسلة من الإصلاحات للحدّ من النفقات الحكوميّة، وظهرت «الآليّة الوقائيّة الوطنيّة»، التي هدفت إلى تقديم الخدمات للمواطنين كافّة. وقد انتشرت هذه الإجراءات في الدول الصديقة لبريطانيا، مثل أستراليا التي أدخلت المناقصات التنافسيّة، والتعاقد القائم على الأداء، والموازنة المعتمدة على النتائج. وسارت على النهج ذاته نيوزيلندا، حيث فوّضت إلى الوكالات في الخطوط الأماميّة سلطة اتّخاذ القرار.
- هل يمكنكِ أن تحدّثينا عن ميّزات الرقمنة في الحوكمة، وتبنّي التقنيّات الحديثة في عملها؟
- تمتاز هذه المقاربة في تعزيز الفعاليّة والكفاءة، لأنّها تبسّط العمليّات، وتُزيل العقبات البيروقراطيّة، وتحسّن من تخصيص الموارد. هذا ما يمكّن المؤسّسات من تخفيف الأعباء الإداريّة، كتقليل الأعمال الورقيّة. ممّا يؤدّي إلى تقديم الخدمات بدقّة أكبر وأداء أسرع، وبالتالي التوفير في المال والمجهود. كذلك، تهدف هذه الابتكارات إلى مشاركة المواطنين في عملية الحوكمة، الأمر الذي يعزّز الشفافيّة والثقة في المؤسّسات الحكوميّة، فتُقدّم الخدمات بوجهٍ أفضل عندما تُجمع الملاحظات، والبيانات بشكلٍ ممنهج.
من ناحيّة أخرى، تُحفِّز هذه الابتكارات الإداريّة مشاركة المواطنين، فتُمكِّن التقنيات الرقميّة أهل البلد من المشاركة بفعاليّة أكبر في عمليّة الحوكمة، ممّا يعزز الشفافيّة، والمساءلة، والثقة في المؤسسات العامّة. وتُتيح التقنيّات الرقميّة فُرصًا غير مسبوقة للحكومات بُغية التفاعل مع المواطنين، وجمع الملاحظات، والمشاركة في إيجاد الحلول، وتقديم العرائض، والمشاركة في المناقشات والسياسات والتصويت عليها. ويساعد على تحقيق ذلك، وجود منصّات حكوميّة سهلة الاستخدام، ممّا يبسّط الوصول إلى الخدمات الأساسيّة، ويعزّز تجربة المواطن ومستوى الرضى لديه.
- هل من أمثلة على ما ذكرتيه من ميّزات؟
- أجل، ففي سنغافورة، تُساهم تحليلات البينات، والذكاء الاصطناعيّ على تحسين التخطيط الحضريّ، ووسائط النقل عن طريق خطّة "الأمّة الذكيّة". كما توفّر إستونيا برنامج الإقامة الإلكترونيّة لروّاد الأعمال، وإمكانيّة تأسيس أعمالهم وإدارتها رقميًّا. أمّا في تشيلي، فقد تمكّن المواطنون من اقتراح مشاريع البلديّة، والتصويت عليها بما يتجاوب مع احتياجات المجتمع وأولويّاته. كذلك، تعزّز كوريا الجنوبيّة من شعور الشموليّة والاندماج في القرارات والسياسات الحكوميّة عن طريقة "منصّة الشعب" الإلكترونيّة. وأخيرًا وليس آخرًا، أحدثت الهويّة البيومتريّة في الهند ثورة في تقديم الخدمات، ممّا ساعد على وصول مزايا الرعاية الاجتماعيّة، والصحّيّة لأكثر من مليار شخص، وبالتالي حسّن حياة الكثير من المهمّشين.
- حدّثتينا سابقًا عن تقنيّات "البلوكتشين" في الإدارة الماليّة، هل من دورٍ لها في الإدارة العامّة؟
- بالطبع، تُستخدم اليوم تقنيّات البلوكتشين لضمان معايير الشفافيّة وإمكانيّة المساءلة في الإدارة العامّة. فمكّن استعمالها في تقليل عمليّات التحايل، وحالات النزاع على الملكيّة عن طريق توفير سجلّات شفافّة وغير قابلة للتغيير في بعض الدول. كذلك في الإمارات العربيّة المتّحدة، نرى أنّ خطّة "بلوكتشين ٢٠٢٠" في دبي تهدف إلى رقمنة جميع المعاملات الحكوميّة وتشفيرها، ممّا عزّز الثقة والأمان فيها. وقد استُخدمت مؤخّرًا تقنيّة سلسلة الكتل "البلوكتشين" في إحدى عمليّات التصويت في سويسرا، ممّا جعلها غير قابلة للتلاعب.
- وماذا عن البلدان التي ترغب في التعافي الاقتصاديّ، هل تكفي الرقمنة للتغلّب على صعوباتها؟
- كما رأينا، فإنّ اعتماد التكنولوجيا كمحفِّز حيويّ يمكن أن يُعزِّز الابتكار، ويدعم الاقتصاد الرقميّ، بما فيها البلدان الشرق أوسطيّة، التي تسعى نحو الحوكمة الرشيدة، خصوصًا تلك التي يُعاني فيها القطاع العامّ ومؤسَّساته. لكنّ الأمر لا يقتصر على مجرّد رقمنة آليّات العمل، وإنّما نحتاج إلى نوعٍ من التحوّل الداخليّ في ثقافة الإدارة العامّة، وتطوير طرائق العمل، لا لمُحاكاة توجّهات العصر الرقميّ وحسب، بل لمكافحة الفساد، وإنعاش القطاعين العامّ والخاصّ، وكذلك منظّمات المجتمع المدنيّ، وتلبية تطلّعات المواطن عن طريق تقديم الخدمات المناسبة، وذات الجودة الأعلى، والتكاليف الأقلّ. ويجب على كلّ استراتيجيّة أن تتمحور حول احتياجات المواطنين والمواطنات باختلافها، وأن تتبنّى المقاربات العلميّة، وتتضمّن عوامل التمكين.
- في الختام، هل من كلمة تودّين مشاركتها المستثمر العربيّ؟
- في الحقيقة، أصبحت اليوم ابتكارات الرقمنة والتقنيّات الجديدة ضرورات لا يمكن الاستغناء عنها، وهي تخطّ المسار المستقبليّ لا للحكومات وحسب، بل للقطاعات كافّة. كما أنّنا نرى أن هذا العصر يحمل في جعبته الكثير من إمكانات الاستثمار عندما نشجّع الموارد البشريّة المحلّيّة على الابتكار، ومساعدة الحكومات على إيجاد هذه الأُطر التقنيّة ودعمها فنيًّا، لتكون أكثر مرونة واستجابة مع متطلّبات المجتمع.
هكذا، نجد أنّ سُبل الحوكمة لن تتألّق ما لم تتكافل جميع الجهود لضمان استمراريّة هذا المشروع الطويل الأمد، ويكون التعاون عنوان المرحلة القادمة، سواء داخليًّا بين الحكومات والمستثمرين، أو خارجيًّا بين الدول فيما بينها، وبذلك نسعى معًا في إعلاء شأن الدول العربيّة، ودعم دورها الرياديّ في الإدارة العامّة عالميًّا.