المصرف والمودِع ... من سيربح الماراثون؟
يشهد المودعون قيمة مدخّراتهم تتلاشى في المصارف اللبنانيّة، وحساباتهم تخضع لقيود صارمة. فبدأت أزمة السيولة العام ٢٠١٩، وتبعتها حلقات من القيود المصرفيّة غير الرسميّة، الّتي حدّت بشكل كبير من وصول المواطنين إلى أموالهم. وفي ظلّ عدم وجود خطّة خروج شاملة منذ أكثر من ثلاث سنوات، فإنّ المودعين هم أوّل من يتحمّل وطأة الخسائر الفادحة للقطاع المصرفيّ، التي تقدّر بأكثر من ٧٢ مليار دولار أميركيّ. ولمعرفة حيثيّات هذا السباق الماراثونيّ للفوز أو تحقيق أقلّ الخسائر، سنسترجع المشهد قبل الأمتار الأخيرة للسباق الماليّ بين المودعين والمصارف...
إعتمد مجلس النوّاب في الصيف السابق إصلاحًا في قانون السرّيّة المصرفيّة في البلاد المعمول به منذ العام ١٩٥٦، الّذي طالب به صندوق النقد الدوليّ من أجل منح حزمة مساعدات ماليّة للبلاد، وتمّ بشكلٍ «مخفَّف» للغاية. كما وافقت الحكومة على مسودة خطّة التعافي، بما في ذلك إعادة هيكلة القطاع المصرفيّ. لكنّها لا تزال بعيدة كلّ البعد من دعم المصرفيّين وبعض كبار المودعين، والسياسيّين. تدعو هذه الخطّة البنوك التجاريّة إلى تحمّل معظم الخسائر مع حماية صغار المودعين، إذ سيتمّ (بحسب الخطط) سداد حوالى ٨٨٪ من الودائع بالكامل. وسيتحمّل كبار المودعين، ومساهمي المصارف معظم الخسائر.
إذ يتمركز الجزء الأكبر من الخسائر الآن لدى مصرف لبنان، فأودعت البنوك التجاريّة الأموال مقابل أسعار فائدة مغرية حينها، ولا سيّما على شهادات الإيداع بالدولار الأميركيّ. واليوم، يجد مصرف لبنان غير قادر على السداد، حيث تمّ امتصاص النقد الأجنبيّ بدعم العملة المحليّة، وتمويل الدولة المفلِسة. بالطبع، لا تلتزم البنوك بطروحات تحمّلها الخسارة الأكبر، لأنّها تريد من الدولة المساهمة في تحمّلها، وتتّهمها مع مصرف لبنان بسوء الإدارة. عمومًا، تتأثّر المصارف اللبنانيّة بشدّة بالأزمة الاقتصاديّة الّتي يمرّ فيها لبنان، فيطلب أكبر ١٤ مصرفًا لبنانيًّا ضخ ٦٥ مليار دولار أميركيّ في السوق، وهو ما يتجاوز بكثير المساعدات الاقتصاديّة المقدّرة بـ ٢٦ مليار دولار.
في العودة بالزمن لتاريخ لبنان الماليّ-الاقتصاديّ، ففي التسعينيّات وبعد سقوط حكومة عمر كرامي، ووصول رفيق الحريري رئيسًا للوزراء، تقرّر تنفيذ إجراء رائج في ذلك الوقت، وهو ربط الليرة اللبنانيّة بالدولار الأميركيّ عند ١٥٠٧ ليرة لبنانيّة / دولار، وهو ما يُعمل به منذ العام ١٩٩٧ حتّى انكسر ذلك الترابط في شباط ٢٠٢٣ رسميًّا بعد أن كان عمليًّا، لتصبح المعادلة ١٥,٠٠٠ ليرة / دولار. ومع ذلك، أظهرت نماذج الاقتصاد القياسيّ تكافؤًا حقيقيًّا وقتها قدره ٣٠٠٠ ليرة / دولار، بالرغم من وجود نقاشات حول هذا الموضوع بالذات، وتعرّض الفكرة بالإجمال لانتقادات شديدة عند تطبيقها.
كان أحد النقاشات على وجه التحديد يدور على ربط الليرة اللبنانيّة، لا بعملة بلد ليس شريكنا الرئيسيّ وحسب، بل بسلّة عملات تمثّل شركائنا التجاريّين، وبالتحديد في ذلك الوقت الفرنك الفرنسيّ، والجنيه الإسترلينيّ، والليرة الإيطاليّة، والريال السعوديّ، وحتّى الليرة السوريّة، وبالطبع الدولار الأميركيّ كعملة صرف عالميّة. وهذا لا يزال لهذه اللحظة، فأسعار الصرف توضع من دون أي دراسة واضحة.
حتى ذلك الحين، كان بعضهم يخشى أن يكون عدم تعويم الليرة اللبنانيّة مقابل الدولار الأميركيّ يؤثّر على تنافسيّة الليرة اللبنانيّة بسبب جاذبيّة العملة المحليّة المستقرّة ذات معدّلات الفائدة المرتفعة، الأمر الّذي كان واعدًا من ناحية جلب الأموال، خصوصًا من الشتات اللبنانيّ. كما تمّ تضخيم أصول البنوك رسميًّا من خلال التدفقات الماليّة الواردة، ولكن أُعيد استثمارها بمعدّل فائدة مرتفع وصل إلى ٣٨٪ في التسعينيّات، ممّا تسبب في نموّ العجز العامّ.
مع مطلع العام ٢٠٠٠، تكبّد لبنان قدرًا كبيرًا من الديون لإعادة بناء بلد الأرز بعد الحرب الأهليّة. ضحّت هذه الخطّة بأقسام كاملة من القطاع الإنتاجيّ، على حساب قطاع السياحة والعقارات. كما تمّ خصخصة قطاعات بأكملها بشكلٍ غير مباشر، تحديدًا الاتّصالات، مع انتشار شبكات الهاتف المحمول. أمّا القطاعات الّتي كانت بطبيعتها خاسرة، فقد بقيت على حساب الدولة، ممّا تسبّب في اتّساع العجز العامّ، واضطرّت الدولة إلى الاستدانة لمواصلة تمويل نفسها على أمل أن يكون النموّ أعلى من خدمة الدين.
حينها، كانت سيناريوهات الأزمة الاقتصاديّة تدور بالفعل في الأوساط الرسميّة، وفي أوساط قادة المصارف اللبنانيّة الذين لم يكونوا على دراية بالمخاطر القادمة. ولتلافي هذه الأزمات، حصل لبنان على مساعدات اقتصادية في إطار مؤتمرات (باريس ١-٢-٣)، بعد حرب تمّوز ٢٠٠٦، مقابل وعود بإصلاحات أساسيّة، تتناول السياسة العامّة، والماليّة، وإدارة القطاع العامّ. بدلًا من ذلك، لم يعرِف لبنان إصلاحاتٍ ملموسة، وتبخّرت الأموال، وظهرت أزمة ديون جديدة، وفي نهاية المطاف، تمّ اللجوء إلى ودائع الناس، كي تستمر الدولة في البقاء، بما يتجاوز إمكانيّاتها، مع تواطؤ المصارف الّتي استفادت في المقابل من ارتفاع أسعار الفائدة على الليرة اللبنانيّة المرتبطة بالدولار الأميركيّ. فأدّت هذه الآليّة إلى تجفيف الودائع بالدولار، وتفاقمت هذه الظاهرة بشكلٍ أكبر بسبب العجز التجاريّ الكبير الّذي زاد لتدمير البدائل المحلّيّة للمنتجات المستوردة.
في تشرين الثاني ٢٠١٩، رفض مساهمو المصارف اللبنانيّة أيّ حلّ يضرّ بمصالحهم، حتّى لو كانت الحلول على حساب المودعين أنفسهم. فالمصالح بين المساهمين والمودعين متضاربة: إذ كلّما زاد «الهيركات» على حسابات المودعين، قلّ حجم مساهمة المنقذين، والعكس صحيح.
لقد تمّ حماية المصارف اللبنانيّة حتّى الآن من الإفلاس «العمليّ» منذ إدخال «الكابيتال كونترول» حينها، ولو بطريقة غير رسميّة، من خلال أدوات مختلفة وضعها مصرف لبنان، على وجه الخصوص، زيادة رأس المال الزائفة، لا عن طريق النقد، بل العقارات الّتي تمّ تضخيم قيمتها بشكل مصطنع. والأسوأ من ذلك، رأينا أنّ بعض المصارف لم تشرع في زيادة رأس المال هذا، واستمرّت في العمل، بينما كان على مصرف لبنان سحب ترخيصها أو تصفيتها.
اليوم وعلى خطوات من خطّ النهاية، يقوم مصرف لبنان بتطبيق آلية جديدة لتعديل، بل وتعزيز، مجموعة القيود المصرفيّة الّتي تعيق بدورها حرّيّة وصول المودعين اللبنانيّين إلى حساباتهم المصرفيّة، وهو حقّ محفوظ بموجب القانون.
تمّت صياغة هذه القيود في التعميم الرئيسيّ رقم ١٦١، الّذي يسمح لأصحاب الحسابات بالليرة اللبنانيّة، بالتحويل ثمّ سحب مبالغ صغيرة بالدولار «الفريش» كلّ شهر. علمًا أنّ عمليّات التحويل والسحب لا تتمّ بسعر السوق، ولكن عبر منصة صيرفة، الّتي يديرها مصرف لبنان، وهدفها «المُعلَن» توحيد أسعار الصرف المتعددة، وزيادة الشفافيّة في سوق الصرف الأجنبيّ، لكن قد يمسي المواطن على حلم الصرف في الغدّ، لكنّه يُصبِح على خبر إغلاق المنصّة، وتخفيض سقف السحوبات من دون علم مسبق.
وعلاوة على ما ذُكِر، قُدِّم التعميم رقم ١٦١ عند إطلاقه كوسيلة للتعويض عن فقدان القدرة الشرائيّة للموظفين الحكوميّين الّذين يتقاضون رواتبهم بالليرة، والّذين احتُسِبت رواتبهم بالسعر الرسميّ. لكن حتّى هذه اللحظة، لم تتحقّق هذه الأهداف، وفي الوقت الّذي نجد فيه أنّ الفرق بين سعر الصيرفة والسوق الموازي يستمر في الاتّساع، نرى مصرف لبنان يفقد احتياطاته من النقد الأجنبيّ على نحوٍ مخيف.
في وقت إصدار التعميم، كان السعر المعلن لصيرفة ٢٢,٧٠٠ ليرة/ للدولار، مقارنة بسعر السوق الّذي قارب ٢٨,٠٠٠ وقتها. وبعد مرور عام، أصبحت الفجوة أكثر وضوحًا: فلامس سعر الصرف المنصّة حدّ الـ٤٢,٠٠٠، بينما كان يرتفع سعر السوق السوداء دومًا مع ازدياد سعر المنصّة، بدل تخفيض الفارق. وبسبب الفرق بين هذين السعرين، فإنّ الآليّة الّتي وضعها التعميم ١٦١، تعمل كوسيلة لدعم شراء الدولارات من قِبل الشركات والأفراد.
مع الأخذ في الاعتبار الأرقام المذكورة أعلاه، يسمح هذا التعميم لصاحب أيّ حساب بالحصول على دولارات الفريش، بسعر أقلّ من سعر السوق الموازية، مع إمكانية تحقيق مكاسب في رأس المال من خلال اللعب بالمعدلات: ورقة ١٠٠ دولار أميركيّ النقديّة، يتمّ صرفها بما يقارب ٦٠,٠٠٠ ليرة/ دولار، فتُصبح ٦ ملايين ليرةّ. ومع ذلك، فإنّ هذه الورقة النقديّة، يتمّ صرفها بحسب منصّة صيرفة بما يعادل ٤٢,٠٠٠ ليرة/ دولار، أي تقريبًا ١٥٠ دولارًا، وهو ما يعني ربحًا فوريًّا بنحو ٥٠٪. علمًا أنّ هذه هي المرة الأولى التي يرتفع فيها هذا الهامش خلال عامّ واحد. فكان حوالى ٢٥٪ في أوّل يوم لتطبيق التعميم، ثم بعد ذلك انخفض إلى ١٥٪ بقليل بعد ٦ أشهر، قبل أن يرتفع مرّة أخرى.
يمكن دمج استخدام التعميم رقم ١٦١ مع أدوات أُخرى لتجاوز القيود المصرفيّة. أي: التعميمان رقم ١٥٦ و١٥٨، اللذان يسمحان بتحويل وسحب دولارات المصارف إلى الليرة بسعر جديد منذ أوّل شهر شباط بمقدار ١٥٠٠٠ ليرة / دولار. هكذا، من خلال دمج العمليّات، يمكن لعملاء البنوك اللبنانيّة المتأثّرين بالقيود أن يحدّوا بشكلٍ هامشيّ من الخسائر الّتي يضطرون إلى تكبّدها، من خلال إجبارهم على سحب أموالهم بأسعار أقلّ من السوق. لكن كيف؟
بالإضافة إلى الاختلاف في الأسعار، فإنّ المنفعة «أو تقليل الخسارة» الّتي يمكن للمودع أن يستمدّها من التعميم رقم ١٦١، تعتمد أيضًا على سقوف الحدود المصرّح بها. عندما نُفّذ التعميم، أعطى مصرف لبنان للمصارف حرّيّة وضع قيود على المبلغ الّذي يمكن لعملائها سحبه كلّ شهر. إذ كانت الأشهر القليلة الأولى من التنفيذ بلا حدود تقريبًا، ولكن تمّ تجميد سقوف عمليات السحب عبر تعميم ١٦١، بمبلغ ٥٠٠ دولار أميركيّ لكلّ رقم حساب، ثم ٤٠٠ دولار أو أقلّ، عند معظم البنوك.
يوجد في الواقع نوعان من السقوف: الحدّ المفروض على المعاملات الّتي يمكن إجراؤها عن طريق تحويل «لولارات» إلى ليرة قبل تحويلها مرّة أُخرى إلى دولارات، وهي مقيّدة بسقوف التحويل والسحب الخاصّة بكلّ مصرِف، والحدّ الأقصى للمبلغ النقديّ بالليرة الّذي يمكن لكلّ عميل إيداعه مباشرة لدى مصرفه، لاستبدال الدولار بسعر منصّة الصيرفة.
في محاولة لتأخير نهاية السباق واستنزاف القوى، يبدو أنّ العمل بالتعاميم سيستمر، أقلّه بالنسبة للقطاع العام. بالرغم من أنّ المخطط الّذي ينصّ عليه كان مؤقّتًا، مبدئيًّا لمدّة أسبوعين، وقد تمّ في الواقع تمديده لشهر أو شهرين في كلّ مرّة. ولا يوجد ما يشير في الوقت الحالي إلى عدم التمديد. وفي حين أنّ العمليّات كانت تتمّ حصريًّا في كوّات التصريف، فقد تمّ دمجها في قوائم أجهزة الصراف الآليّ، بينما قرّرت بعض البنوك أخّيرًا الذهاب إلى أبعد من تجهيز بعضها لهذا النوع من العمليّات.
صحيح أنّ المصارف قد تكبّدت الخسائر بحكم توظيفات الودائع وائتمانها لمصرف لبنان، لكنّها من جهة أُخرى تُقلّص ديونها لجهة المودعين بفضل عمليّة «الهيركات» غير المُعلَنة وفق التعاميم المتتالية. ففي المحصّلة، تتلاشى نشوة المودِع مع كلّ ١٠٠ دولار «ينقذها» من حسابه، أو يضاعفها عن طريق بعض العمليّات «الرياضيّة» و«هندساته» المبتكرة، إذ أنّ رصيده، وتعبه يتبخّران مع مرور الوقت، وفقدان الليرة اللبنانيّة قيمتها.
وبحسب مقولة «الوقت يعني المال» نجد أنّ الوقت المهدور في طوابير الصرافة، والانتظار أمام الصرّاف الآليّ، ومكاتب التحويل الدوليّ، قد تعادل مقدار الربح الزهيد الّذي يكسبه المودِع... وتبقى المنافسة أشبه بالمسابقة الرياضيّة، فيركض اللبنانيّ لتخطّي الحواجز والعراقيل الماليّة الموضوعة، والمفاجِئة... ونراه راجيًا يوم تختفي فيه هذه العوائق... إمّا لتحسّن الوضع الاقتصاديّ وهذا ما نرجوه... أو انهيار النظام الاقتصاديّ اللبنانيّ بأكمله!