تداعيات الحرب الرّوسيّة الأوكرانيّة على الأمن الغذائيّ عالميًّا وعربيًّا
مقدّمة
إنّ الحرب الّتي تشنّها روسيا ضدّ أوكرانيا لها عواقب وخيمة على تقلّب أسعار الموادّ الغذائيّة، وتزعزع استقرار الأسواق العالميّة، ممّا يؤدّي إلى تفاقم أزمة انعدام الأمن الغذائيّ والّتي تصاعدت بالفعل منذ بداية جائحة كوڤيد-١٩. كما تُعتبر الحرب في أوكرانيا جزءًا من مشهد زراعيّ وغذائيّ شديد التّوتّر ومستمرّ منذ وقتٍ طويل. فعلى مدار العشرين عامًا الماضية، عرفت المسكونة وضعًا محمومًا بمطالِب تتصاعد في مناطق تُنتج القليل من مصادرها الغذائيّة، في حين يتزايد عدد سكّانها بوجه غير متوازن عند المقارنة بمواردها الطّبيعيّة المحدودة. لذلك، فإنّ السّلام والأمن في تلك البلدان ليسا مضمونين على المدى القصير والمتوسّط، ومع ذلك، ثمّة حقيقة جيوسياسيّة لا يمكن إنكارها، فالسّلام والاستقرار أوّلًا وقبل كلّ شيء هما اللّذان يحدّدان معايير التّنمية الزّراعيّة، حتّى في حالة وجود الموارد الطّبيعيّة في تلك الدّول. والسّؤال الّذي يُطرح في هذه الأيّام: ما تأثير الصّراع العسكريّ الحاليّ على الأمن الغذائيّ والزّراعة في أوكرانيا وفي العالم؟ هل يمكن أن يؤدّي ارتفاع أسعار الموادّ الغذائيّة إلى تعطيل السّلم الاجتماعيّ في بعض البلدان، وخصوصًا بلداننا العربيّة؟
١. التّأثير على أوكرانيا نفسها
أوّلًا، فيما يتعلّق بأوكرانيا نفسها، تُظهر النّتائج الأوّليّة، بحسب نظام الرّصد التّابع لمنظّمة الأغذية والزّراعة للأمم المتّحدة (الفاو) "اتّجاهًا متدهورًا في الأمن الغذائيّ"، ولا سيّما في المناطق الأوكرانيّة الّتي تشهد قتالًا نشطًا وميولًا انفصاليّة، وتلك الّتي فيها أكبر عدد من النّازحين في الدّاخل الأوكرانيّ. فثمّة حوالى ٢٧٪ من المقاطعات الأوكرانيّة حيث تجري الآن غالب العمليّات العسكريّة، وتلك الّتي لديها أكبر عدد من النّازحين في الدّاخل، تواجه مشاكل فوريّة وحتميّة تتعلّق بانعدام الأمن الغذائيّ. في الوقت عينه، يتوقّع العالم حوالى ١١٪ من (المعرَّضين جزئيًّا للقتال) أن يعانوا من حدوث نقص في الغذاء في غضون شهرين، بالإضافة إلى ما يُعادل ٢٢٪ يتوقّع لهم أن يواجهوا نقصًا في الغذاء في النّصف الثّاني من العام ٢٠٢٢.
إذا استمرّت الحرب واتّسعت، وهذا هو السّيناريو المتوقّع حتّى هذه اللّحظة في ظلّ عدم تحرّك مفاوضات السّلام إيجابًا بين الجانبين الرّوسيّ والأوكرانيّ، سيزداد الضّغط بوجهٍ مطّرد بشأن توافر الغذاء حتّى حصاد المحصول المقبل في الصّيف، هذا إذا افترضنا أنّ زراعة المحاصيل الموسميّة ممكن في ظلّ المواجهات السّاخنة، وعدم لجوء الجانب الرّوسيّ إلى تقنيّة الأرض المحروقة، ضمن منافسة حادّة على حضور البلدين في سوق الغذاء العالميّ وأهمّيّتهما. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ منظّمة الفاو قلقة بوجهٍ خاصّ من تعطّل المحاصيل الشّتويّة والزّراعة في فصل الرّبيع. كما أنّها مهمومة بشأن توافر اليد العاملة الزّراعيّة الّتي تتأثّر بحركة النّزوح عامّةً، وسهولة التّنقّل ضمن أوكرانيا نفسها الآخذة في التّشرذم.
ثمّة تحدٍّ آخر، هو الوصول إلى الاحتياجات الزّراعيّة الأساسيّة وتوافرها، ولا سيّما الوقود، يُضاف إليها أيضًا تعطيل الإمدادات اللّوجستيّة والموادّ الأوّليّة. كما أنّ هناك مخاوف بشأن التّخلّي عن الأراضيّ الزّراعيّة، وتعذّر فرص الوصول إليها بسبب الأضرار الّتي تلحق بها من جرّاء الصّراعات العسكريّة المحتدمة.
٢. سياق اندلاع أزمة الأمن الغذائيّ للحرب في أوكرانيا
منذ ٢٠ عامًا، يتزايد الطّلب العالميّ على الموارد الغذائيّة بشدّة مع زيادة عدد السّكّان بمقدار ملياري نسمة. وعلى الرّغم من ذلك، فإنّ الإنتاج الزّراعيّ متوافر إلى حدٍّ ما في البلدان نفسها، ولم يستطع الإنتاج في البلدان النّامية تحقيق المفاعيل المرجوّة منه حتّى الآن. كما أدّت جائحة كوڤيد-١٩ الّتي شهدناها في العامين المنصرمين إلى تفاقم انعدام الأمن الغذائيّ العالميّ.
في وقت مبكّر من خريف العام ٢٠٢١، أشارت تقارير الأمم المتّحدة إلى أنّه ما يزال حوالى مليار شخص يعاني من الجوع الشّديد، ونحو مليارَي شخص لديهم القليل جدًّا من الغذاء، وتنوّع ضئيل جدًّا في سلوكيّاتهم الغذائيّة [1]. بعبارة أُخرى، يعيش ثلاثة مليارات شخص (أكثر من ثلث سكّان العالم) حياتهم اليوميّة، وهم يتساءلون عمّا سيأكلونه في كلّ ليلة، ومن المرجّح أن يستمرّ الوضع على هذا النّحو، إن لم يكن إلى الأسوأ. بالطّبع، لقد سبق الصّراعَ الرّوسيّ الأوكرانيّ تصاعدُ تضخّم أسعار الغذاء بتواتر كبير للغاية. لكن، عندما أصبحت تكلفة الطّعام أغلى بكثير ممّا كانت عليه قبل أزمة كوڤيد-١٩ من جهة، وتقلّصت القوّة الشّرائيّة لدى المواطنين مع الوباء من جهة أُخرى، وجد العديد من المستهلكين أنفسهم في مأزق مزدوج: قوّة شرائيّة أقلّ، ومنتجات ذات تكلفة أكبر.
٣. أثر الحرب في أوكرانيا على المسائل الزّراعيّة ومستجدّاتها
مع تفاقم الصّراع وعدم وضوح الأفق في ظلّ تغيير التّخمينات العسكريّة المسبقة، أصبحنا نعي أكثر فأكثر أنّ حوض البحر الأسود يمثّل سلّة غذاء رئيسيّة تصدّر خيراتها إلى جميع أنحاء العالم. إذ تُنتج كلّ من روسيا وأوكرانيا الكثير كمًّا، وعليه، يمكنها توفير فوائض كبيرة من محاصيلها الزّراعيّة للتّصدير، وتغذية الأسواق العالميّة. فالزّراعة عنصر مهمّ من عناصر السّيادة لكِلا البلدين على السّاحة الدّوليّة. كما تُعدّ الحبوب والغاز الرّوسيّان من الموارد الاستراتيجيّة الّتي تمكّنت موسكو من التّرويج لها دبلوماسيًّا.
أمّا فيما خصّ أوكرانيا، فقد زادت صادراتها الزّراعيّة بمقدار اثني عشر ضعفًا من حيث القيمة، وستّة أضعاف في الحجم في العشرين عامًا الماضية، فهي دولة ذات قدرة إنتاجيّة كبيرة. علمًا أنّ إنتاج المحاصيل الحقليّة يتكوّن من الحبوب والقمح والذّرة وعبّاد الشّمس. وتمثّل أوكرانيا في حصّة السّوق الدّوليّة ما يُقارب ١٠-١٢٪ من إنتاج القمح، و١٥-٢٠٪ من إنتاج الذّرة، و٢٠-٢٥٪ من إنتاج الشّعير وبذور اللّفت، بالإضافة إلى ٥٠-٦٠٪ من الصّادرات العالميّة من زيت عبّاد الشّمس [2]. لذلك ليس من المستغرب أنّ الأسواق الدّوليّة بالغت في ردّ فعلها تُجاه هذا الحدث، خصوصًا وأنّ الأسعار كانت مرتفعة للغاية منذ الأزمة، كما سبق أن ذكرنا.
٤. التّداعيات العالميّة للصّراع الرّوسيّ-الأوكرانيّ على الأغذيّة والزّراعة في البلدان العربيّة
لن يكون الصّراع، الآنف الذّكر، من دون عواقب على الدّول الرّئيسيّة الّتي تشتري القمح في شمال أفريقيا، والشّرق الأوسط، وجنوب شرق آسيا [3]. من بين هذه البلدان المستهلِكة، مصر على سبيل المثال، فتعداد سكّانها البالغ عددهم ١١٠ مليون نسمة على رأس قائمة المستوردين العالميّين. فمن أصل ٢٤ مليون طُنّ من استهلاك القمح السّنويّ، يأتي ١٤ مليون طُنّ من واردات السّوق العالميّة، والمشكلة تزداد تعقيدًا عندما نعرف أنّ هذه الواردات تأتي بنسبة ٦٠٪ من روسيا و٣٠٪ من أوكرانيا. وعليه، فإنّ مصر تواجه مأزقًا لا مخرج منه، وعليها زيادةُ دعمها العامّ لضمان السّلم الاجتماعيّ، والاستمرار في بيع الخبز المصريّ الشّعبيّ لمواطنيها. علمًا أنّ هذا النّوع من الخبز مدعوم من الحكومة المصريّة، ويمثّل نصف استهلاك البلاد، في حين أنّ الأسعار في المخابز غير المدعومة تضاعفت منذ بداية الصّراع. ومن المتوقّع أن يرتفع دعم الموادّ الغذائيّة في البلاد، الّذي يتراوح بين ٥-٦ مليارات دولار أميركيّ سنويًّا، إلى ٧-٨ مليار دولار أميركيّ في هذا العام.
إنّ المثال الّذي عرضناه عن مصر هو مجرّد مثال ينسحب على الكثير من الدّول، وخصوصًا الدّول العربيّة، وهذا الواقع يشدّد على حقيقة أنّ سعر الغذاء هو معيار أساسيّ في تحديد السّلم الاجتماعيّ، وأنّ وراء كلّ انتفاضة شعبيّة غالبًا ما تكون ثمّة مشكلة غذائيّة. وعلاوة على ما ذُكر، لا بدّ من التّنويه إلى المخاطر والمشاكل جرّاء تغيير طبيعة الغذاء ونوعيّته وكمّيّاته، علمًا أنّ النّظام الغذائيّ المتوسّطيّ هو من أكثر الأنظمة تنوّعًا وأغناها من بين الحميات الغذائيّة في العالم. فإن لم تتوافر هذه الضّمانات، سيؤثّر ذلك حتمًا على العادات والتّقاليد الثّقافيّة-الغذائيّة الّتي ستتغيّر لدى النّاس، وستنعكس سلبًا على الصّحّة العامّة للفرد [4].
ويمكن تناول لبنان كمثال آخر على هشاشة التّخطيط الغذائيّ الزّراعيّ السّليم. فلبنان الّذي عُرف عنه غنى موائده، سلبته الأزمة الاقتصاديّة الحادّة، وجائحة كوفيد-١٩ العالميّة، وتفجير مرفأ بيروت هذه الخاصيّة. إذ لم تكن قضايا الأمن القوميّ الغذائيّ مطروحة بشكلٍ جادّ. وحتّى اللّحظة فإنّ جميع التّحرّكات تبقى على مستوى الكلام لا الأفعال، إذ إنّ البنية التّحتيّة في لبنان لا تُساعده اليوم على تنفيذ نهضة زراعيّة، وقراراته محكومة دومًا بالميول السّياسيّة، والمصالح الشّخصيّة الضّيّقة. كما أنّ الحلقة الاقتصاديّة الّتي ستدفع هذه النّهضة إلى الأمام، هي بحدّ ذاتها متعثّرة، لأنّها مرتبطة بأسعار المحروقات المرتفعة، وعدم قدرة تأمين الكهرباء، وغيره من المشاكل الّتي تجعل البلد عاجزًا عن أيّ إصلاح ملموس، حتّى وإن كان مناخه وتربته قد يصلحان لبعض الزّراعات الّتي تتطلّب وضع خطط متوسّطة وطويلة المدى[5].
حاليًّا، نرى أنّ الوضع الغذائيّ في العالم آخذ في التّدهور، كما يمكننا أن نلاحظ تصاعد المظاهرات في جنوب العراق ووسَط تونس. ثمّ إن مخزون الحبوب في غرب أفريقيا منخفض نسبيًّا في المناطق الّتي لا يوجد فيها دعم حكوميّ يسند المستهلكين، أي أنّه لا يضمن السّلم الاجتماعيّ. وتجدر الإشارة أيضًا إلى أنّ ٢٧ دولة في الشّرق الأوسط، وجنوب الصّحراء الكبرى الأفريقيّة، وآسيا الوسطى، وهو ما يمثّل حوالى ٧٥٠ مليون نسمة، تعتمد على روسيا أو أوكرانيا في أكثر من ٥٠٪ من وارداتها من القمح.
لذلك، تُذكّرنا الحرب في أوكرانيا بأنّ الزّراعة والأمن الغذائيّ حقيقتان جيوسياسيّتان إلى حدٍّ كبير. واليوم، يثير اعتماد العديد من البلدان على الصّادرات الرّوسيّة و/أو الأوكرانيّة أسئلة استراتيجيّة تسعى الحكومات العالميّة إلى إيجاد الإجابة عنها في أسرع وقت، كي لا تزيد الأزمة توسّعًا، وتولّد الحرب حروبًا أُخرى، إن لم تكن حربًا عالميّة ثالثة. إذ يتوجّب عليها أن تصمد فيما يتعلّق بطموحاتها المناخيّة الخضراء، وأن تواصل الضّغط من أجل التّحوّلات في الممارسات الزّراعيّة لإنتاجٍ أفضل بموارد أقلّ. ومع ذلك، في الوقت نفسه، يجب أن تستمرّ في الإنتاج وربّما حتّى إنتاج المزيد. هذه القدرة الّتي يتعيّن الحفاظ عليها أو تعزيزها مماثلة لتحدّيات قطاع الدّفاع العسكريّ والأمن القوميّ، فيجب أن تجمع الزّراعة العالميّة بين قضيّة القدرات هذه والتّحدّيات البيئيّة، والأمن القوميّ.
خاتمة
يجب أن تهدف المبادرات العالميّة إلى التّعويض عن انخفاض الغلال الغذائيّة، والمحاصيل المهدّدة في أوكرانيا على أقلّ تقدير، ما لم نأخذ بعين الاعتبار تبعات العقوبات الاقتصاديّة المفروضة على روسيا. كما يجب أن تتحرّك الحكومات الآن لمنع المجاعة من الانتشار في أفريقيا، والتّسبّب في الفوضى، وموجات الهجرة. فالعالم بمنأى عن أزمة جديدة تضربه قبل أن يتعافى السّوق الاقتصاديّ من جائحة الكوڤيد-١٩ المؤلمة. كما أنّ المنظّمات الدّوليّة الرّئيسيّة الثّلاث المعنيّة بالأمن الغذائيّ (منظّمة الأغذيّة والزّراعة، والصّندوق الدّوليّ للتّنميّة الزّراعيّة، وبرنامج الأغذيّة العالميّ)، طالبت الجهاتِ الدّوليّة نفسها بإنشاء آليّة تنسيق وشراكة تهدف إلى ضمان الشّفافيّة، وسيولة الأسواق، وتحسين مرونة الزّراعة في أكثر البلدان هشاشة. وعلاوة على ذلك، إظهار التّضامن معها، كالمبادرة المتعدّدة الأطراف (FARM) – بعثة المرونة في الأغذية والزّراعة – الّتي تهدف إلى تنسيق الجهود ضدّ انعدام الأمن الغذائيّ النّاتج عن الحرب الرّوسيّة-الأوكرانيّة، والتّصرّف قبل فوات الأوان، على نحو مبادرة (ACT-A) ، وما عملت عليه للحدّ من آثار جائحة كوڤيد-١٩. فهناك أكثر من ٢٨٠ مليون شخص على شفا المجاعة في جميع أنحاء العالم، وثمّة حاجة بالفعل إلى ٩ مليارات دولار أميركيّ لتمويل برنامج الغذاء العالميّ بوجهٍ عاجل. وهذا ما يُلحّ أكثر فأكثر على السّعي إلى الجمع بين الدّول، والمؤسّسات، والمنظّمات الدّوليّة المعنيّة بالأمن الغذائيّ.
وفي عصر التّكامل واندماج العمل الاقتصاديّ، على كلّ منظّمة أن تؤدّي دورها على أتمّ وجه: فمنظّمة الأغذية والزّراعة يجب أن تعمل على مكافحة المضاربة، وضمان شفافيّة الأسعار، عن طريق الحدّ من توتّرات السّوق، والصّندوق الدّوليّ للتّنميّة الزّراعيّة للاستثمار في البلدان الّتي تواجه صعوبات، وبرنامج الأغذية العالميّ لمكافحة ارتفاع الأسعار، والدّخول في حوار مع المصدّرين. فالعمل الاقتصاديّ، والسّلميّ، والإنتاجيّ يتمّ في حلقة متكاملة تسعى دومًا إلى دعم الإنسان، وضمان استقراره، والعمل على تحسين أحواله وتطوّره.
في النّهاية، يجب أن يكون لدينا غذاء كافٍ للفئات الأكثر ضعفًا، وبأسعار مقبولة، من دون الإخلال بالسّوق العالميّة. كما سيتعيّن علينا تحديد جميع العقبات على جميع المنتجات والموادّ الأوّليّة الزّراعيّة، في حين تتمثّل إحدى المعارك الرّئيسيّة في تجنّب قيود الاستيراد والتّكدّس المفرط.
عالميًّا، ما زال موقف الحكومات وتصرّفها غير واضحين، وهي وقعت في فخّ التّخمين الخاطئ الّذي وضعته باقي الدّول أيضًا. فلم يتوقّع أحدٌ أنّ روسيا قد تتعدّى التّهديد العسكريّ كي تفوز ببعض المكاسب الاستراتيجيّة، ولا هي توقّعت أيضًا أن تستمرّ الحرب في أوكرانيا أبعد من أسبوع، وقد وقع العالم في مأزق مزدوج، فهو حُرِم من الصّادرات الأوكرانيّة بسبب التّدخّل الرّوسيّ، وحَرم نفسه من الصّادرات الرّوسيّة بسبب حزمة العقوبات الاقتصاديّة الصّارمة الّتي فرضها على موسكو.
عربيًّا، لم تكن الحكومات بعيدة عن المشهد العامّ، لكنّ وضعها الاقتصاديّ كان يفترض بها أن تتكهّن المستقبل، خصوصًا أنّ أسعار القمح على سبيل المثال قد ارتفعت منذ العام ٢٠١٤ مع التّدخّل الرّوسيّ في شبه جزيرة القرم، ولم تكن حالتها اليوم وليدة مفاجأة، لا سيّما وأنّ العالم العربيّ يعتمد كثيرًا على استيراد القمح، وتُعتبر مِصر الدّولة الأولى في هذا التّصنيف، وقد يكون انشغال العالم العربيّ بالوضع السّياسيّ ما بعد الرّبيع العربيّ السببَ المباشر لتأجيل مشاكله الاقتصاديّة إلى حين.
ختامًا، يجب أن ننوّه بأن لا أمن سياسيًّا داخليًّا أم خارجيًّا يمكن ضمانه من دون خطّة اقتصاديّة متكاملة، يكون فيها الأمن الغذائيّ حجر زاويتها. فإنْ بحثنا في الثّورات، لوجدنا أنّ رغيف الخُبز هو محرّكها الأوّل. واليوم يجب على الحكومات العربيّة أن تُساهم مع الدّول الكبرى والمؤسّسات العالميّة في إيجاد الإجابات في أسرع وقت ممكن عن سُبل زيادة انتاجها المحلّيّ، وتنويع البلدان الّتي تستورد منها، ورفع مخزوناتها الاستراتيجيّة القوميّة، والبحث عن الحلول البديلة للموادّ الأوّليّة.
والتّساؤلات الّتي تبقى معلّقة: كيف يمكننا الاعتماد على سُبلٍ تقنيّةٍ تطوّرُ المحاصيل الزّراعيّة الذّكيّة، لزيادة الإنتاج الزّراعيّ في البلدان العربيّة واحترامنا للبيئة؟ وما الخطط ذات المدى المتوسّط، الّتي ستكون جدواها الاقتصاديّة مُربحة في السّنوات العشر المقبلة؟ وما الطّرائق الّتي يمكن اتّباعها لمكننة العمل الزّراعيّ والتّغلّب على مشكلة شحّ المياه، وتقلّبات المناخ، وضيق المساحات الصّالحة للزّراعة؟ وكيف نواجه ليس المخاطر النّاتجة من الزّراعة على الاقتصاد فحسب، بل مخاطر الجوع وانتكاسات النُّظم الغذائيّة، حتّى نضمن عدم انزلاق تلك الدّول إلى وادي الجوع، والفوضى، والتّحسّر على بعض الإجراءات الوقائيّة الّتي كان يجب اعتمادها مسبقًا؟!
_________
[1] Boustani, Nada Mallah and Guiné, Raquel P. F. "Food choice motivations and perception of a healthy diet in a developing Mediterranean country" Open Agriculture 5, no.1 (2020): 485-495. https://doi.org/10.1515/opag-2020-0048
[2] FAO. 2022, Ukraine: Rapid Response Plan, March–December 2022 – Supporting agricultural production to bolster food availability and access, Rome. https://doi.org/10.4060/cb9457en
[3] FAO. 2022, Assessing investment needs in Ukraine’s a reconstruction and recovery, Rome.https://www.fao.org/3/cb9448en/cb9448en.pdf
[4] Boustani, N. M.; Ferreira, M.; Guiné, R. P. 2021. Food consumption knowledge and habits in a developing country: a case of Lebanon, Insights into Regional Development3(4): 62-79. https://doi.org/10.9770/IRD.2021.3.4(5)
[5] Mallah Boustani, Nada. «La Connaissance Alimentaire au Pays des Cèdres» - in Al-Machriq Magazine, No. 95, Vol 2, July 2021.
https://al-machriq.com/2021/10/07/الوعي-الغذائيّ-في-لبنان-الأخضر-2/