عام نفطيّ سرابيّ وتنقيبات مؤجّلة

نُشر هذا المقال في موقع ليبانون ٢٤، في ١٠-١-٢٠٢٣. لقراءة المقال على الموقع، اضغط هنا.

تلاشى صخب حفلات رأس السنة، وعاد المغتربون إلى واحات عملهم... تاركين وراءهم المعاناة اليوميّة لبلدٍ كان لهم موطنًا. ولم يبقَ من كؤوس النخب سوى تمنيّات لسنة جديدة مليئة بالازدهار، وبقي اللبنانيّ يدعو، ويحلم، ويتمنّى، ويرجو يوم ينهض فيه البلد فيغدو بيته الّذي يستقرّ فيه ويشعر بالأمان.

يمكن تلخيص عام الـ٢٠٢٢ بأنّه عام الوهم النفطيّ، فقد ملأت مسألة تقسيم الحدود البحريّة الاعلام المحلّيّ، وفجأة، نجدها هي أيضًا تلاشت وذابت مع التدهور الاقتصاديّ المستمرّ، وارتفاع المواد الأساسيّة بوتيرة يوميّة. كيف أصبحت "الليرات" تُحسب بالرِزم، فالورقة النقديّة فقدت قيمتها وقدسيّتها، وباتت المعيشة، والمعاملات التجاريّة تحتاج إلى فئات ورقيّة من فئة الأصفار المسدَّسة، إن لم تكن مسبَّعة!!!  

ما زال اللبنانيّ ينتظر استفاقة اقتصاديّة، وخصوصًا مع كل الآمال المعقودة على أن يكون لبنان دولة نفطيّة... بالطبع، انطفأ وهج الدولة النفطيّة الإعلاميّ بعد انطفاء الحجّة السياسيّة لهذا الشعار الفضفاض... ففي الواقع، لن يكون لبنان دولة نفطيّة في القريب العاجل، وتعي كل الأطراف أنّ الأمر مؤجَّل لأسباب طبيعيّة ولوجستيّة وسياسيّة، حتّى وإن كانت ماكيناتهم الإعلاميّة تُغلق أعينها عن هذا الواقع، ولكن تذهب بحواسٍ أُخرى أبعد من الطبيعة، وتشتمّ رائحة الغاز المدفون بالرغم من عدم وجود رائحة له.  

الكابوس الأصعب في بحر الأحلام الورديّة هذه، هو أنّ عصرنا ليس عصر النفط الذهبيّ الذي كان في سبعينيّات القرن الماضي، ذلك الّذي قطفت ثماره دول عديدة، وخصوصًا الدول الخليجيّة في المنطقة، ونراها اليوم تبحث في استثماراتٍ أوسع من حقولها النفطيّة "المضمونة"، إذ نُشاهد السعوديّة تنفتح سياحيًّا بوتيرة غير مسبوقة، وقطر تستقطب أهمّ حدث عالميّ رياضيّ مع استثمار في البنى التحتيّة يفوق ديون لبنان بثلاثة أضعاف، واستثمارات في التكنولوجيا والمدن الذكيّة كما هي الحال في دبي، وغيرها من علوم، والثقافة، والفنّ... ويكفي أن نبحث أين أحيا نخبة الغناء اللبنانيّة سهرة هذه السنة!  

إنّ دراسة جدوى المشاريع النفطيّة تقدّر كميّات مبدئيّة وتحتمل عدّة سيناريوهات لمعرفة الطاقة الإنتاجيّة للحقول النفطيّة، فهل المشروع النفطيّ اللبنانيّ سرابٌ يقوم على سعر البرميل المتوقّع عند التنقيب بما يحمله من احتمالاتٍ واسعة. وهل ستكون الأدوات التقنيّة حينها الأمثل والأحدث؟ أم أنّ ابتكاراتٍ أُخرى قد تُحجب عن لبنان؟ والسؤال الأهمّ... هل سيكون للنفط والغاز حينها القيمة ذاتها في ظلّ ميل البلدان إلى الطاقة المستدامة والخضراء؟  

الخطر الأكبر يكمن في تلاعب الدول الكُبرى بلبنان لهشاشة دوره السياسيّ اليوم، دولة من دون رئيس "مهما بلغ قوّةً أو ضعفًا". لذلك، تمّ الدفع بملفّ ترسيم الحدود لا من أجل النفط اللبنانيّ، بل من أجل مصالحٍ أُخرى، والدليل مماطلة الشركات المسؤولة عن التنقيب بمعاودة عملها، وإطلاق الوعود على مبدأ "قول انشالله". إذ سينتظر لبنان وقتًا طويلًا ليُصبح فاعلًا في اقتصاد الشرق الأوسط، ولا يكتفي بكونه واحة لقاء، واستراحة طريق ينزل بها بعض المغتربين وأهل الجوار، ليعودوا أدراجهم إلى واحة استثماراتهم ومصدر رزقهم.  

لن يخرج لبنان قويًّا من هذه التجربة الّتي وضعته في قافلة الانتظار، ما لم يستفِق اللبنانيّ نفسه ويعرف أنّ كلّ صوت انتخابيّ له أثره على المدى القريب والبعيد، فبدل أن يكون الملفّ النفطيّ مسألة "طائفيّة-سياسيّة" يجب أن يكون مسألة "سياديّة-مصيريّة" يحدّدها المواطن، ومَن ينتخب مِن ذوي الكفاءات... فليست ثروات البلد إلّا مُلكًا للشعب، وليتنبّه مِن إضاعة ثرواته لأجل من أضاع كرامته، سنين هوى فيها إلى أسفل حدود الفقر والتعاسة، في وقت يراقب مواطني بلاد كثيرة يقفزون إلى أعلى تصنيفات الرفاهية والسعادة... فهل ننتظر للبنان معجزة تنقذه من وهم جهنّمي مرير، ويكمل طريقه نحو جنّة مستدامة؟