استراتيجيّات الزراعة وآفاقها في الشرق الأوسط

نُشرت هذه المقابلة في مجلّة البيان الاقتصاديّة، العدد٦٣٦، تشرين الثاني ٢٠٢٤. لقراءة المقابلة في المجلّة، اضغط هنا.

يشهد العالم العربيّ تقلّبات جيوسياسيّة عديدة في العقود الأخيرة، وهي بدورها تؤثِّر على مناحي الحياة المتشعّبة، ولا سيّما الاقتصاديّة منها، ممّا يدفع الدول إلى إعادة اعتبار مواردها الطبيعيّة، والبحث عن السبل المستدامة. قابلت البيان البروفيسور ندى الملّاح البستانيّ لتحدّثنا عن أهمّيّة القطاع الزراعيّ في المنطقة وتحدّياته، وأثره على المشهد الاقتصاديّ بوجهٍ عامّ. 

- هل يمكن أن ترسمي لنا المشهد العامّ الزراعيّ في منطقة الشرق الأوسط وخصوصًا في الآونة الأخيرة؟

- إنّ مؤشّرات الزراعة والأمن الغذائيّ في الشرق الأوسط تبعث على القلق، خصوصًا في مواجهة التحدّيات السياسيّة العسكريّة، ففي الآونة الأخيرة، يتعرّض لبنان "الأخضر" إلى موجة عنف تضرب استقراره الزراعيّ بقوّة، وهذا ما يمتدّ على مساحة شاسعة من البلاد المجاورة، كسوريا، والعراق، والأراضي المحتلّة. وتأتي هذه الضربة بعد سنوات من الأزمة الاقتصادية وعدم الاستقرار السياسيّ في هذه البلاد. وفي المشهد المقابل نجد الدول الخليجيّة على سبيل المثال، تنهج وفق خطط مستدامة لتحسين هذا القطاع الذي يعتمد على المياه الجوفيّة، وزيادة نسب الاكتفاء الذاتيّ الزراعيّ، والاهتمام بمصادر أُخرى طبيعيّة غير الموارد النفطيّة. 

- ما هي أشدّ المخاطر الّتي تواجه هذا القطاع حاليًّا؟ 

- يعاني هذا القطاع الحيويّ في بعض البلدان من مجموعة من العوامل، نذكر منها: تدهور حالة البنية التحتيّة المتهالكة، وانعدام الأمن الذي يحول دون الوصول إلى الأراضيّ الزراعيّة واستصلاحها، ممّا يُفاقم عجز المزارعين حيال الحفاظ على الإنتاج وتطويره. من ناحية أُخرى، نجد التغييرات المناخيّة الّتي إمّا تسبّب شحًّا في المياه الجوفيّة الّتي تعتمد عليها الدول غير الماطرة، أو حدوث سيول وفيضانات غير متوقّعة تأتي على الأراضي الزراعيّة. من دون أن ننسى العوامل الاقتصاديّة، من حيث ارتفاع تكاليف النقل، وإيجاد سوق للتصريف مع ارتفاع معدّلات التضخّم، وتقلّص القدرة الشرائيّة لدى كثيرين. 

- أمام هذه المخاطر، هل رأينا بعض الحلول العمليّة في تلك البلاد؟

- بالطبع، مثالًا، ولمواجهة المصاعب الديموغرافيّة، مثل النزوح السوريّ إلى لبنان. إذ تدفّق أكثر من ١,٥ مليون لاجئ، وشكّل ضغطًا كبيرًا على وفرة المنتجات الغذائيّة، إلى أنّ توجّه الكثير من اللبنانيّين إلى الزراعة، واعتمادهم على هذه اليدّ العاملة النازحة، أدّى إلى توسيع السلّة الغذائيّة من جديد في لبنان، ولا سيّما البقاع، وتمّ الاستثمار في زراعة البيوت البلاستيكيّة لإنتاج الخضروات والفواكه. كذلك، في الدول الخليجيّة، فقد وضِعت خططًا لتقليص الاعتماد على المياه الجوفيّة، والعمل على تطوير مصادر المياه المتجدّدة، مثل: حصاد مياه الأمطار، وإعادة استخدام مياه الصرف المعالجة. وزيادة نسبة المساحات الزراعيّة بوجهٍ عامّ، والتخطيط الزراعيّ الرشيد. 

- في حديثك عن الاسترتيجيّات، هل يمكن أن تذكري لنا بعضًا منها؟

- عمومًا، لا نجد هذه الاستراتيجيّات في البلدان الأوسطيّة الّتي ما زالت تعاني من عدم الاستقرار السياسيّ والعسكريّ، على الرغم من أنّها أغنى زراعيًّا من نظيراتها، ويعود هذا بالطبع إلى تقلّب الحكومات، ونزيف الميزانيّات، والتخبّط في سلّم الأولويّات الّذي يضع الزراعة، وللأسف، في المراتب الثانويّة. من ناحية أُخرى، استفاقت الدول الخليجيّة على واقع محدوديّة المصادر النفطيّة، وباتت تضع خططًا لتخفيف اعتمادها على الذهب الأسود. ففي المملكة العربيّة السعوديّة، تحصل الزراعة على أهمّيّة كبيرة في رؤية ٢٠٣٠، فثمّة خطط تدعم التنمية الريفيّة الزراعيّة المستدامة والتركيبة المحصوليّة حسب الميزة النسبيّة للمناطق، وتشجّع استخدام التقنيّات والممارسات الحديثة، للحفاظ على الموارد الطبيعيّة وتحسين الإنتاجيّة الزراعيّة. أمّا في قطر، فقد قطعت شوطًا كبيرًا على طريق تحقيق الاكتفاء الذاتيّ، ليرتفع من ١٠٪ منذ ١٠ سنوات إلى نسب تجاوزت ٥٠٪ في إنتاج الخضراوات، بالإضافة إلى نسب أخرى متقدّمة في مختلف القطاعات الزراعيّة وذلك على الرغم من ندرة الموارد المائيّة. وكذلك في الإمارات المتّحدة العربيّة، فقد وضع المركز الدوليّ للزراعة المحلّيّة طرقًا زراعيّة متكاملة وتوظيف التكنولوجيا، مع الاهتمام بالابتكار والتطوير في المجال الزراعيّ، بما يتناسب مع البيئة والمناخ الصحراويّ. وتزايد اهتمام الإمارات في الفترة الأخيرة بالزراعة، حيث عملت السلطات على إنشاء وزارة معنيّة بملفّ الأمن الغذائيّ، وتوظيف التكنولوجيا والبحث العلميّ في هذا القطاع.

- ختامًا، ما توصياتكِ كي يكون القطاع الزراعيّ بديلًا مستدامًا في مواجهة التقلّبات الاقتصاديّة والسياسيّة في المنطقة؟

- علينا أوّلًا التعامل مع كلّ تحدٍّ بوجه خاصّ، ففي لبنان، يجب إيجاد الطرق لفصل القطاع الزراعيّ عن نظيره المصرفيّ المنهار، وإيجاد نوع من الاستقرار الماليّ لتعافي الزراعة، وتحوّلها إلى مصدر إيجابيّ في الناتج الوطنيّ، بدلًا من أن تبقى عبئًا وعجزًا. من دون أن ننسى الحاجة إلى البحث عن الاستقرار السياسيّ في المنطقة وهذا ما يحتاج إلى تضافر الجهود الدبلوماسيّة كافّة، والعمل على إعادة إعمار البنية التحتيّة الزراعيّة في المقام الأوّل. كذلك، يتوجّب بناء استراتيجيّات زراعيّة تقوم على الأبحاث العلميّة المدعومة حكوميًّا بتأسيس مراكز بحثيّة متخصّصة. والعمل على توسيع المساحات الزراعيّة المساعدة على الاستقرار الغذائيّ والاقتصاديّ والديموغرافيّ. ويمكن لبعض الدول الصناعيّة، زيادة انتاجها للمغذّيات الزراعيّة، وتوفيرها لدول المنطقة، ولا سيّما أنّه يبلغ إنتاج الدول الخليجيّة حوالى ٥٪ من الإنتاج العالميّ. ناهيك عن الاستثمار المستدام في المجالات الزراعيّة عمومًا، بالاعتماد على الأراضي الشاسعة، والموارد البشريّة بوفرة الأيدي العاملة، والتقدّم العلميّ والتكنولوجيّ، والاستفادة من تنوّع المناخ في دول المنطقة، ممّا يحقّق نوعًا من استراتيجيّة أوسطيّة متكاملة، شمالًا وجنوبًا، ونخطو نحو استقرارٍ أمنيّ غذائيّ نحن بأمسّ الحاجة إليه. وأخيرًا وليس آخرًا، استخدام الذكاء الاصطناعيّ في تحسين طرائق الريّ والتغلّب على شحّ المياه، وغيرها من السبل المستدامة.