انتعاشة صيفيّة... في جوّ البطالة
في خضمّ انتعاشة سياحيّة-صيفيّة يتساءل المراقبون في لبنان: إلى أين؟ الأوّل، هو الاقتصاديّ الّذي يعرف أنّ موسم السياحة لن يؤمّن استقرارًا ماليًّا مستدامًا. والثاني، هو من يعرف أنّ سوق العمل في لبنان ما زال متقلّبًا، ويبحث عن إمكانية الهجرة، إمّا للعمل أو للدراسة ويكون هو بذاته "سائحًا" هائمًا يبحث عن مصدر العيش المستدام خارج وطنه.
قد يعودُ المتنفَّس السياحيّ بالأثر الأكبر على المسؤولين أنفسهم، فهم ارتاحوا لفترة من ضغوطات التضخّم، والدولرة، والعجز، وكثير من التفاصيل المهمّة في الحلقة الاقتصاديّة اللبنانيّة، وها هُم كالعادة، يداوون الأعراض لا الأمراض! فلبنان يعيش عدم استقرارٍ سياسيّ واقتصاديّ وتربويّ وحتّى أخلاقيّ، لا يعرف أشهر العرّافين إلى أين يتوجّه، ومتى تتغيّر أبراجه ويعيش مرحلة ينعم بها بالراحة ويبثّ الثقة.
إنّ معدّلات البطالة والفقر مؤرقة جدًّا لأصحاب الضمير الّذين يرغبون في القيام بأيّ أمرٍ لاستصلاح الوضع الراهن، كي يخفّفوا من الرغبة الجامحة عند اللبنانيّين في مغادرة وطنهم الأمّ في أقرب فرصة، مع وجود أكثر من ثلث السكّان بحكم العاطلين عن العمل.
كما أنّ البطالة ليست مسألة مستقلّة بحدّ ذاتها، فهي قد تدفع التماسك المجتمعيّ وأمنه إلى أماكن لا تُحمد عواقبها، وهي عادةً ما تُستغلّ من طبقةٍ تستثمر في الفوضى وعدم الاستقرار، لتُنتج مجموعات من المستفيدين والمكبّلين باحتياجهم إلى لقمة العيش. وهذا ما يؤدّي إلى تصادمات غير سلميّة في كثير من الحالات، وقد ظهرت بعضها في مناطق متعدّدة في لبنان، وخصوصًا عندما تُلعب على الوتر الطائفيّ أو السياسيّ-الإقليميّ، كأزمة ازدياد عدد اللاجئين السوريّين.
في السياق نفسه، لا يمكننا أن نحدّد طبيعة البطالة في لبنان ومعدّلاتها بشكلٍ دقيق؛ فمن يُعتبر بحكم العاطل عن العمل؟ هل نعتبر ذاك الّذي عمل لفترة وجيزة أنّه نجا من البطالة؟ فمثلًا، الحركة السياحيّة اليوم قد خفّفت من هذه المعدّلات. لكن أتعود الأرقام المخيفة إلى ارتفاع في القريب العاجل؟ كما أنّ حساسيّة كلّ بلد تختلف بحسب منظوره، ففي لبنان قد ترتفع نسب البطالة بعشرات الدرجات، ولا تُحرّك لدى المسؤولين جفنًا. أمّا في البلدان المتطوّرة، فإن أيّ اختلاف بأجزاء من الألف، يُبحث، ويُفسّر، ويُبرّر، سواء أكان إيجابيًّا أم سلبيًّا.
لذلك، قد يلعب أصحاب الشأن على الكلام والأرقام، وقد يقدّمون إحصائيّات غير حقيقيّة للواقع المؤلِم في البلد. فالجميع يدرك أنّ الأجور لم تعُد "كريمة"، وكثيرون يُقبلون على وظائف غير معلن عنها لتلافي الضرائب، أو أعمال خطرة وغير قانونيّة. وهناك أُخرى غير مندرجة تحت أيّ تصنيف اعتياديّ، وهي الآن بدعة الحاجة في سوق العمل. وفي جردة خاطفة، نجد أن هذه الأعمال غير المستقرّة أو المستدامة، تسند الكثيرين في إيجاد قوتهم اليوميّ.
تبقى الإعانة من الخارج سلاحًا ذا حدَّين، فاليوم، نجد أنّ معظم اللبنانيّين قادرون على الصمود بسبب الإعانات الماليّة الّتي تُرسل إليهم بشكلٍ منتظم. لكن، هل هو عامل استقرار؟ أم عامل دافعٌ يحثّ الكثير من الشبّان والشابات إلى خوض تجربة الهجرة من البلد، من أجل عيشٍ لائق لهم ولأُسرتهم؟
بالطبع، ما زلنا نطرح التساؤلات شأننا شأن الكثيرين؟ ونتخيّل سيناريوهات عديدة تتنوّع من الأشدّ تفاؤلًا إلى أقتمها تشاؤمًا. وما زال مسؤولون كثيرون يعجزون عن طرح الحلول الملموسة من أجل تفادي مرض الهجرة، وعدم معالجة عوارضه مؤقّتًا.
في النهاية، لا يمكننا غضّ الطرف على أنّ "مورّثة" الهجرة موجودة في دمّ كلّ لبنانيّ وهي عابرة للأجيال. وهناك ميل عاطفيّ ونفسيّ إليها، بالإضافة إلى الإمكانات الّتي يتمتّع بها اللبنانيّ، كإتقانه اللغات، وحُسن تعليمه، وعقليّته المنفتحة، والمبدعة. لكن، يبقى السؤال: ألا يكون الوطن أحقّ من غيره من البلدان في استثمار موارده البشريّة من أبنائه، والاعتماد عليهم في نهوضه من جديد؟