المصرف المركزيّ ودوره الفاعل
كيف للبنان النهوض من أزمته الاقتصاديّة والماليّة في غياب مصرفٍ مركزيّ ذي سيادة واستقلاليّة وفعاليّة؟ لذلك يحرص المسؤولون على إنعاش هذه المؤسّسة الحيويّة، سواء بإصدار بعض القرارات، والتأكيد على غيرها، بُغية ضبط عمليّة الأموال بالتدقيق في مصادرها، والامتثال إلى القواعد الضابطة.
تُعدّ البنوك المركزيّة في الاقتصاد العالميّ أساسًا لا يمكن الاستغناء عنه، إذ تحافظ على الاستقرار النقديّ وسلامة الأنظمة الماليّة، وقيَم العملات الأجنبيّة، وأسعار الفائدة، وتراقب الإمداد النقديّ. كذلك، تنظّم القطاع المصرفيّ وتقوم بأبحاث اقتصاديّة مكثّفة. وعلاوة على ما ذُكِر، تُصيغ السياسات النقديّة.
في البلدان النامية، ومنها لبنان، تؤدّي البنوك المركزيّة دورًا حيويًّا في ضمان الاستقرار الاقتصاديّ عن طريق التغلّب على التضخّم والانكماش، وتعزيز النموّ المستدام. لذلك، فإنّ التحدّيات التي تواجهها هذه البلاد، تؤكّد أهمّيّة السياسات النقديّة الحكيمة، والحوكمة الفعّالة للبنك المركزيّ، عن طريق تعديل أسعار الفائدة، والتدخّل في عمليات السوق المفتوحة.
من ناحية أُخرى، وفي أوقات الأزمات الماليّة أو نقص السيولة، تتدخّل البنوك المركزيّة لتمثّل ملاذًا أخيرًا للإقراض، بتوسيع التمويل الطارئ للمؤسَّسات الماليّة المتعثّرة، فهي تمنع الانهيارات المحتملة بتعزيزها الثقة في النظام المصرفيّ المحلّيّ، كما تضع المعايير الوقائيّة لحماية مصالح المودعين، وضمان متانة القطاع المصرفيّ.
كذلك تؤدّي دورًا مهمًّا في عمليّة الاندماج الماليّ وشموليّته، فعليها تقع مهمّة تسهيل الوصول إلى الخدمات الماليّة الرسميّة للمواطنين المحرومين، ممّا يساهم في الحدّ من الفقر وتحقيق التنميّة الاقتصاديّة، من خلال توفير التمويل والتسهيلات الائتمانيّة الموجّهة للقطاعات الرئيسيّة.
في الآونة الأخيرة، اجتهد مصرف لبنان في الحفاظ على استقرار سعر الصرف للعملات الأجنبيّة، وهو أمرٌ بالغ الأهميّة للتجارة الدوليّة، وجذب الاستثمارات الأجنبيّة. فتدخّل في أسواق الصرف الأجنبيّة، ولو بطريقة غير واضحة، لإدارة تقلّبات العملة وضمان القدرة التنافسيّة. كما يسعى لإطلاق منصّة "بلومبرغ" العالميّة في لبنان، كبديل لمنصّة "صيرفة"، وعدًا منه في بذل قُصارى جهوده بالتدخّل للجم الارتفاع الكبير في سعر العملات الأجنبيّة، وتعدد أسعار صرفها، وتحقيق أعلى مستويات الشفافيّة.
هذا ما يفرض على مصرف لبنان أن يتراجع عن الخطوات الّتي أودت بلبنان إلى ذروة أزمته... التي كشفت نقاط ضعف في الإطار التنظيميّ والرقابة على القطاع الماليّ فيه، ممّا سمح بممارسات محفوفة بالمخاطر، وهروب رؤوس الأموال إلى خارج البلد. كذلك تمثّلت هذه الأخطاء في السياسات النقديّة غير المستدامة، سواء بالتدخّلات القويّة في سوق العملات، أو برفع أسعار الفائدة، ممّا أدى إلى نقص حادّ في احتياطيات النقد الأجنبيّ، وانخفاض سريع في قيمة الليرة اللبنانيّة.
من ناحية أُخرى، لا يمكن للبلد أن يستسلم للظروف الراهنة والانهيار الاقتصاديّ التامّ. فيجب على الدولة اللبنانيّة ضمان استقلالية مصرفها المركزيّ عن التأثير السياسيّ، وهذه خطوة جوهريّة. إذ يمكن للبنك المركزيّ المستقلّ اتّخاذ قرارات محايدة بناءً على الأسس الاقتصاديّة والاستقرار طويل الأجل، والمصلحة العامّة لا الخاصّة. وأن يتبنّى سياسات نقديّة حكيمة تراعي ظروفه الاقتصاديّة الفريدة.
ختامًا، نأمل أن تكشف الأيّام المقبلة عن إجراءات تُعيد إلى مصرف لبنان تعافيه، وإعادة ثقة المواطنين والمستثمرين الدوليّين الّتي حرّكها الافتقار إلى الشفافيّة، ممّا يقود إلى إعاقة الاستثمارات طويلة الأجل. وتخطّي الانكماش الاقتصاديّ وتبعاته الكبيرة على الناتج المحليّ الإجماليّ، وارتفاع معدّلات البطالة، ممّا يفاقم المصاعب الاجتماعيّة والاقتصاديّة. فهنا تكمن الحاجة إلى مصرف مركزيّ "قويّ"، فغايتنا أن يعيش اللبنانيّ في أمانٍ ماليّ واقتصاديّ واجتماعيّ، وينعم بالاستقرار والنموّ المستدام، لا المؤقّت.