صفر على اليمين والودائع "طايرين"؟
يقول المثل الشائع: " متل الصفر ع الشمال"... لكي يعبّر عن عدم أهمّيّة أمرٍ ما... لكن، في الأمس، أُضيف صفرًا لقيمة صرف الليرة اللبنانيّة "ع اليمين" وكان مهمًّا، إذ أصبحت المئة ألف منها تساوي دولارًا أميركيًّا واحدًا. وما لجأت إليه جمعيّة المصارف من كابيتال كونترول غير مُعلن، تحسُبًا من انهيار الليرة، كان مثل ذلك "الوحش الغامض" الّذي يستعمله الأهل لتخويف أولادهم، فنحن نعيش الواقع الأليم بوجهٍ ملموس، من دون أيّ حاجة إلى مخيّلات وكوابيس...
هكذا تعاملت جمعيّة المصارف مع المواطن اللبنانيّ، في وضع رقابة غير مُعلنة أو قانونيّة على أمواله، وما لحقها من اقتطاعات قسريّة أو شبه قسريّة على رؤوس الأموال، بما فيها من عمليّات تحويل وتصريف وتبديل، و"لولَارة"، إلخ... تفاديًا لذلك اليوم "المشؤوم"... وها نحن نختبر الآن.
بالطبع، إنّ ما يميل إليه بعض الأهل من "حيَل"، قد يصبّ في مصلحة أولادهم في بعض الأحيان، من جهة سلامتهم البدنيّة والنفسيّة إلى حدّ ما. كذلك، كان من المحتمل أن يشكّل الكابيتال كونترول أثرًا إيجابيًّا، في حال طُبّق بحزمٍ ووضوح، أمّا اليوم، فهو مجرّد إذعان لتوصيات البنك الدوليّ، وله أثر سلبيّ كبير على سلامة المجتمع اللبنانيّ الّذي سيورثها لأجياله القادمة في نقل الشعور بفقدان الأمان في موطنهم، حيث يتوجّب على كلّ إنسان أن يشعر بالسلام.
وكما هي الحال في بعض الأُسر غير السليمة، فهي تُميّز بين ولدٍ وآخر، فالمدلّل منهم تُكسَر من أجله كل القواعد. لذلك، كُسِر تطبيق الحجز على أموال بعضهم، ونجحوا بأن يعيشوا خارج قوقعة الأزمة الّتي تلمّ بمعظم مكوّنات "الأُسرة" اللبنانيّة، وتصاعد الشعور بالظلم عند الجميع، وخصوصًا التُجار والمستوردين الّذين يرغبون في الحفاظ على استقرار الاقتصاد الوطنيّ... ولو إلى حين.
في الواقع، نعي أنّ الفساد يُحيط بجميع الهيكليّات الإداريّة في لبنان، من دون أن يُحاسب أحد. وغالبًا لن تسلم اللجان الرقابيّة على مشروع الكابيتال كونترول من الواسطة والضغوطات السياسيّة. وبالتالي، ستقضي عمليًّا جميع الضوابط المزيّفة الّتي تدّعي حماية المودع على الاقتصاد الحرّ. فأيّ بيئة تخلو من الحرّيّة، ستقوّي من سلطة الوصي، وستخنق من هُم في عُهدته لا محال.
ما يزيد من سخرية الأقدار، أنّ العقليّات الفاسدة تجد نفسها في منأى عن أيّ تغيير. فأين خطط إعادة هيكلة القطاع المصرفيّ، وقوانين تنظيم الديون، وأين صوت المواطن اللبنانيّ؟ وكيف سيلجأ إلى عرّابيه في مجلس النوّاب ليشتكي من يعتدي على أدنى حقوقه؟ وكيف سيعرف متى ستنتهي هذه "الخنقة"؟ وما هي معايير "الحجز الماليّ"؟ ومن حدّد في نهاية الأمر أنّ هذه الخطّة هي الأكثر نفعًا؟ ومن سيقف في وجه أولئك الّذي يعصون منذ نعومة أظافرهم، كل القوانين وسيسرحون ويمرحون في ساحات الأسواق المصرفيّة الموازية، والتدفقات الماليّة غير القانونيّة؟
وإن كانت الغاية من تطبيق هذه القوانين سداد ديون لبنان، فكيف ستوقف هذه الإدارة تضخّم ديونها، وهي لم تُظهر أيّ نوايا إصلاحيّة لتدعيم "البيت الداخليّ" اقتصاديًّا؟ وقد تعود خطّة الكابيتال كونترول السطحيّة، بتبعات سلبيّة عميقة على تماسك الاقتصاد وحلقته الكلّيّة اجتماعيًّا، وإداريًّا، وبيئيًّا، وماليًّا، وتربويًّا.
في ظلّ دكتاتوريّة قهريّة، جعلت الأبناء والبنات يفكّرون جدّيًا في هجرتهم للوطن، بعد أن شعروا بتغرّب قاسٍ وهم في بلدهم، لا يبقى سوى صرخة حقّ توجّه إلى من يدّعي حمايتنا، وهو ينوي سرقتنا: كيف ستؤمّنون لنا لقمة عيشنا، وأنتم تقتلون كل فرص النجاة، وكلّ وسائل إنعاش سوق العمل، فلم يبقَ لدينا المال، لا للاستثمار، ولا للدراسة، ولا للعيش، ولا حتّى لنثور ضدّكم... "فيا محلا" الغول ليلة يُصبح الدولار بميّة ألف... أليس هذا الرقم أشدّ ذُعرًا؟ حفظنا الله من أصفار أُخرى قادمة... وما أهمّيّتها إن كانت الودائع قد طارت، وأصبحت مثل "الصفر ع الشمال"؟!